[”الفردوس الذي اجتاحه الأشرار وتنازل عنه السماسرة“، هو أحد العناوين التسعة التي توزعت في كتاب “أنيس صايغ عن أنيس صايغ” للكاتب أنيس صايغ – عن دار رياض الريّس (بيروت، 2006). تقدم "جدلية" هنا مقطفات من هذا الكتاب الذي يعد مادة ثرية لا عن الحياة الاجتماعية والسياسية في فلسطين قبل النكبة فحسب، بل أيضاً عن مدنها وحياتها المدنية التي كثيراً ما يتم المرور بها مرور الكرام. في هذا المقطع يتحدث عن الحياة في مدينته طبريا التي ولد وعاش بها قبل النكبة عام 1931. ]
تتناقض شهرة طبريا مع مقومات شهرة مدينة ما ومع معايير الأهمية التي تتحكم في تقييم موقع سكاني معين. فلا تعداد السكان حالياً أو عبر التاريخ ولا المساحة ولا الصناعة ولا الزراعة أهلت طبريا لأن تتبوأ هذه الرتبة العالية التي وصلت إليها. فهي مدينة صغيرة بكل المقاييس. مساحتها ألف وثلاث مئة دونم. وبلغ تعداد سكانها اثني عشر ألف نسمة في عامها الأخير قبل النكبة، ثلثهم من العرب والثلثان من اليهود. والطقس حار صيفاً دافئ شتاءً ويصل أيام الصيف إلى خمسين درجة مئوية سانتغراد. ولا تمطر السماء أكثر من ثلاثة أسابيع في السنة. ومحاصيلها من الموز والحمضيات والخضار لا تزيد كثيراً عن استهلاك سكانها. ولا تزيد مساحة بحيرتها الشهيرة على مئة وستين كيلومتراً مربعاً. وليس بين القرى المحيطة بها ما يتميز بإسهام بارز في الإقتصاد الفلسطيني.
***
كان المسيح أول من رفع شأن المدينة الناشئة. كانت مدينة دنسة ونجسة عند اليهود في السنين الأولى من عمرها لأنها بنيت فوق مدافن قديمة. ولهذا لم يسجل ((العهد الجديد)) أن المسيح دخل المدينة. غير أنه سريعاً ما اختارها لتصبح واحدة من أشهر المواقع في تاريخ المسيحية الأولى. أجرى في المنطقة معظم معجزاته، في البحيرة وعلى شواطئها وفي مشارفها. وألقى في محيطها وجوارها أشهر خطبه ومواعظه. واختار من بين أهل المنطقة أحد عشر تلميذاً من بين تلاميذه الاثني عشر (الوحيد الذي كان من خارج المنطقة هو يهوذا الأسخريوطي من القدس، الذي غدر بالمسيح وسلمه إلى اليهود ليقتلوه مقابل ثلاثين قطعة من الفضة). إن المسيحية، تاريخاً وتقاليد وفلسفة وتعاليم، مدينة لطبريا منطقة وبحيرة أكثر مما هي مدينة لأي موقع آخر في فلسطين أو ربما في العالم. فلا مدينة المولد (بيت لحم) ولا مدينة النشأة (الناصرة) ولا مدينة الصلب (القدس) أعطت المسيحية بقدر ما أعطته طبريا. لم يكن غريباً والحال هذه أن يختار المسيحيون الأوائل رمز طبريا، سمكة المشط، شعاراً لديانتهم الناشئة، وكلمة السر التي يتبادلون بواسطتها المعلومات والتعليمات.
وأنا أعترف هنا والكلام عن طبريا والمسيح أن مخيلتي في الطفولة والصبا كانت تحفل بقصص المسيح وهو يجول في المنطقة ويستولي على أفئدة الناس بصنائعه وأعاجيبه وأقواله. لكني كنت أتوقف عند رواية واحدة عن معجزة جرت على الشاطئ الشرقي للبحيرة في خراج بلدة أم قيس حالياً، حينما شفى المسيح مريضاً يهودياً مصاباً بداء الصرع بأن ((أخرج الشياطين)) من جسده كما تقول رواية ((العهد الجديد)) وأدخلها في قطيع للخنازير كان يمر صدفة قرب البحيرة، الأمر الذي أدى إلى إصابة القطيع بالجنون فقذف بنفسه في مياه البحيرة – ولعله أول انتحار جماعي! كنت أسأل نفسي حتى وأنا بعد في سن مبكرة عن جواز إنقاذ إنسان عن طريق إعدام مخلوقات أخرى لا علاقة لها بمرض ذلك الإنسان. ولعلي لا أتجاوز الحقيقة إذا قلت أن عطفي على الحيوانات، كل الحيوانات حتى الخنازير منها، ورأفتي بها ربما تعود إلى ما كنت أفكر به عندما كنت أسمع هذه القصة يوماً بعد آخر، في المنزل أو في الكنيسة أو في مدرسة الأحد. وأعترف أني لم أسمع بعد حتى اليوم جواباً مقنعاً على هذا التساؤل.
***
أما الطريق المتجه من المستشفى نحو وسط المدينة فكان يتشعب الى ثلاث اتجاهات. اتجاه نحو فندق طبريا (المعروف باسم صاحبه كروسمان) ومنها صعوداً الى الحي اليهودي الحديث، قريات صموئيل، ومنها إلى الناصرة. واتجاه جنوبي نحو وسط البلدة ومنها في النهاية إلى بلدة سمخ على الطرف الجنوبي من البحيرة. واتجاه شرقي نحو البحيرة وشاطئها المعروف بالبنط (تحريف كلمة بونتي الإيطالية). ويقع على نقطة التفرعات الثلاثة دكان صغير لبيع البنزين للسيارات والمنازل، واسم صاحبه معين (وكنت وأنا طفل أعتقد أن معين تعني بائع البنزين). وفوقه عدة غرف لا أعرف من كان يملكها إنما أعرف أن نساء كن يقمن فيها وكان ممنوعاً عليّ وعلى شقيقيّ منير وماري أن ننظر إلى أعلاه وأن نسأل عن المقيمات بهذه الغرف وعن مهنتهن. فقط لما كبرت وذهبت إلى القدس عام ١٩٤٦ وكانت مومسات حي المونتفيوري مقابل مدرسة صهيون التي التحقت بها يقفن أمامنا من بعيد ويتبادلن الإشارات الموحية مع طلاب الصفوف العليا، آنذاك فهمت تماماً طبيعة عمل نسوة طبريا.
خبرتي بالطريقين إلى البحر وإلى الجبل كانت قليلة بالمقارنة مع الطريق الوسط إلى داخل البلدة. سرت على هذه الطريق سبع سنوات كاملة من حياتي، أربع مرات في اليوم الواحد، أي عند الذهاب إلى المدرسة صباحاً والعودة ظهراً لنتناول طعام الغداء، ثم بعد الظهر عند الذهاب إلى المدرسة والعودة إلى المنزل في المساء. وكانت الطريق تبدأ بمحل ((أحمد منصور)) لبيع الكتب والصحف. وإذا كانت المدرسة هي الأبشع من ذكرياتي الطبرانية فإن محل أحمد منصور هو الأجمل. كنت ظهر كل يوم أحضر منه إلى البيت صحف النهار ومجلات الأسبوع. كنت مصاباً بنهم المطالعة الذي أصيب به كل أفراد العائلة. وكنت أشتري جريدة ((الدفاع)) يومياً، وأحياناً ولسبب ما أشتري جريدة ((فلسطين)) (وكانت الأولى أقرب إلى الحركة الوطنية من الثانية). وبعد ١٩٤٥ صرت أشتري جريدة ((الشعب)) التي أسسها كنعان أبو خضرا مع جمع من الشباب الوطني والتقدمي المستقل عن جناحي الحركة السياسية، جناح المفتي الوطني (وجريدته ((الوحدة)) أواخر الأربعينيات) وجناح المعارضة الموالي إلى الإنجليز والهاشميين (وجريدته ((فلسطين))). وكانت عواطفي تتأرجح بين الدفاع والشعب.
***
أما الطريق الثالثة من ساحة فندق طبريا فكانت تصل إلى شاطئ البحيرة المعروف بالبنط، المرصوص بالمطاعم والمقاهي، وطبقه الرئيسي هو الأسماك الطبرانية على أنواعها.
أتذكر هذا الشارع بأسف كلما زرت شارعاً بحرياً كثير المطاعم في مدن العالم، مثل حي المرسى في تونس، حيث أتردد على ذلك الشارع كلما سنحت الفرصة، لا حباً بأكل السمك إذ لا سمك يضاهي سمك طبريا، ولكن تعويضاً عن أيام طبريا التي كان الوالدان يمنعاننا فيها من الذهاب الى ((البنط)). لا أذكر أني قطعت ذلك الشارع على الأقدام مرة واحدة، مع أنه كورنيش بحري يعجّ بالمتنزهين والسياح ورواد السهر. كنا نمر هناك أحياناً بالسيارة متنقلين من طرف في المدينة الى آخر. أما التنزه على الأقدام فممنوع. وكان الجواب الدائم كلما استفسرنا عن سبب الحظر أن الشارع يكتظ بالسكارى والمعربدين، وهم شريحة لا يجوز لنا، أبناء القسيس، أن نختلط بهم! وكان يشفع لهذه الذريعة أننا كنا نشتمّ رائحة العرق ونحن في السيارة. إذ كانت المطاعم تقدم العرق مجاناً أو بسعر رخيص مع كل طبق سمك.
***
سأختم ذكرياتي عن طبريا بالكتابة عن تلك الساعات الرائعة التي قضيتها، وأنا بعد في العاشرة من العمر، في معلمين طبرانيين بارزيين: فندق طبريا، الذي جرى الكلام عنه آنفاً والحمة. وصدف أن عيّن شقيقي يوسف في مطلع الأربعينيات مديراً عاماً لكل من المؤسستين على التوالي، وكثيراً ما كان يدعوني ومنيراً الى صرف ساعات في صالونات الفندق ومقاهيه ومطاعمه. وكنا نتباهى على أقراننا بمشاهدة فلان أو علتان من كبار المشاهير من عرب وأجانب في الفندق، ونروي لهم ماذا كان هؤلاء يفعلون أو كيف يتصرفون. أما الحمة فكنا نمضي فيها أياماً. وبالرغم من روائح مياهها المعدنية المنفرة كانت أيام الحمة نزهاً حقيقية بعيداً عن المدرسة والدرس. وكان سليمان ناصيف، رئيس مجلس إدارة الشركة المتقدم في السن، يستهويني بحاجبيه الأبيضين الكثيفين. وكان يدعوني إلى أن أجلس إلى جانبه لأستمع إليه يحدثني عن ذكريات شبابه في لبنان ومصر. ولو كنت أسجّل رواياته لكنت أرّخت للرجل الذي لعب دوراً أساسياً في الإقتصاد الفلسطيني.
هذه هي طبريا. هكذا كانت وهكذا هي في الذاكرة وفي الوجدان وفي الأحلام التي تتكرر يوماً بعد آخر على امتداد ما يزيد على خمسين عاماً. وهكذا تتحول المدينة إلى مجرد حلم، بما في الحلم من جمال ومتعة وما فيه من ألم وقسوة، جمال المدينة وقسوة الإقتلاع منها.
[“أنيس صايغ عن أنيس صايغ” للكاتب أنيس صايغ – عن دار رياض الريّس (بيروت، 2006)]